ما لم تهبه العادة..وهبته الدهشة
ما زال في قلبي متّسعٌ لكل شغفٍ قابلٍ للبدء..
رغم كلّ ما رأيت،لا تزال الدهشة قادرة على أن تُقيم فيّ،
كأنني لم أعتد الحياة بعد أراها عظيمة،وكأنني أتنفّسها لأول مرة،في كل مرة أُصغي لما حولي،كأن الأصوات وُجدت الآن،وأفتح عينيّ على تفاصيل صغيرة كانت ضائعة،وكأن التكرار لا يستطيع أن يُطفئ أول وهجٍ في بحر أعماقي.
أفكّر أحيانًا:
هل نحن من يفتّش عن الدهشة،أم أنها من تختار الأرواح القادرة على رؤيتها فحسب؟
بي نفسٌ لا يشيخ،وروحٌ تهفو لكل جديد،واستعدادٌ دائمٌ لسحرٍ اسمه البدايات.
ولعٌ بالأشياء التي تأتي بلا موعد،وبالأحاديث التي تشعل في القلب نورًا،وباللحظات التي تسكن فجأة ولا تغيب عن الذاكرة،بل تترك في داخلي صدى لا يُنسى،فيّ تلك الأرواح التي لم يتكلّس فيها الشعور،ولا بردت فيها الأسئلة،ثمة لحظات تمرّ خفيفة كنسمة، لكنها تهزّ الداخل برمّته،وكأنها تقول:
“أنتَ حي.. وأكثر مما تظن يا إنسان!”
وكما قال محمود درويش:
“أشهد أنني حيّ وحرّ حين أُنسى"
في عمق كل ما أراه،أسمع صوتًا لا يشبه هذا العالم،
يهمس لي بأن المعجزة ليست في حتمية الأشياء،بل في القدرة على رؤيتها من جديد كما لو أنها لم تمرّ من قبل،لا أدري كيف لم أملّ،ولا كيف بقيت أشتاق لدهشتي الأولى نحو اللحظات المنسيّة،التي تمرّ كأنها أول مرة في ذهني،وكأنني لا أريد أن أُشفى منها أبدًا،بل وكأنك أنتَ أيضًا تُبعث وتُزهر من جديد.
فهل الدهشة امتدادٌ للحياة؟
أم هي الحياة بحدّ ذاتها؟
تذكرت مقولة شمس التبريزي:
“لا تقبل بحياة لا تشعر فيها بالحياة"
ربما لا نشيخ حقًا،ما دمنا نندهش،ونستلذّ بالتمعّن،ونشعر،حتى وإن بقي الأثر قديمًا،لابد أن نُقدّر قيمة الحياة بكلّ جوانبها أؤمن بأن هناك دائمًا ما يشبه الروح،وأسعى ألا يقتلني رتابة الاعتياد..وحينها يُصبح الدفء باهتًا أمر الاعتياد لا يطرق الأبواب،إنه يتسلّل خلسة،كغفوةٍ بين يقظتين كظلّ نرتديه دون أن نشعر بثقله،تبدأ الأشياء العظيمة بالتلاشي بصمتٍ مميت،لا لأنها فقدت روعتها،بل لأننا اعتدنا رؤيتها دومًا من ذات الزاوية،بنفس التوقيت،وبذات التعبير ما إن نألف الضوء،حتى لا نعود نراه كما كان بالسابق نخاف أن تفقد الأشياء بريقها في أعيننا،وما إن تتكرر البدايات،حتى تُصاب الروح بمللٍ لا يُعلن نفسه.
كم من فنجان قهوة كان في أول مرة طقس حبّ؟
وكم من صوتٍ كان يملأنا اتساعًا في الفؤاد، وصار لاحقًا ضجيجًا بلا أثر؟
كل ما نمسكه بأصابع التكرار..يبرد ويبهت!
ليس لأن الأشياء فقدت بهاءها،بل لأننا لم نعد نمنحها دهشة العين الأولى،ولا انتباه القلب الطريّ الذي كان يرى الحياة بكل حواسه نلهث خلف كلّ جديدٍ آتٍ،لا لأننا نحبّ التغيير،بل لأننا نخاف من الموت البطيء خلف الوجوه المعتادة، والأماكن المكررة،والكلمات التي لم تعد توقظ شيئًا فينا.
نحتاج أحيانًا أن نبتعد قليلًا أن نصمت في لحظة سكون،أن نفرغ الكأس المملوء حدّ التخمة،كي نشتاق ونجنّ من جديد،كي نعود كما يعود العاشق لبدايته بكل رجفةٍ وسُكر لعاداته المفضلة ربما لم نُخلق لنعيش في رتابة، بل لنُولد كل يوم من جديد،كلما لامستنا لحظة صادقة.
فالحياة الحقيقية ليست ما نعرفه،بل ما يُفاجئنا ويأخذ بأيدينا نحو سؤالٍ جديد، وفكرٍ بعيد، وشعورٍ لم نختبره بعد،كل شيءٍ، مهما كان عزيزًا ومحببًا،يُصبح عابرًا حين يمرّ كثيرًا كأن القلب لا يحتمل التكرار،ولا ينجو إلا حين يُفاجأ،حين تُخاطبه اللحظات كأنها خُلقت له وحده، لتُشعل فيه نشوة البدء.
نحن نُشابه الأطفال أكثر مما نظن..
في احتياجنا للدهشة لكننا نكتم هذا الاحتياج،ونرتدي عباءة باسم “النضج”نخشى أن نعترف أننا نملّ، وأن أعيننا تكلّ أحيانًا،وأننا نحتاج فترات انقطاع، نهرب فيها،
نخلق فيها مساحة للغياب،ومدى واسعًا للمزيد من اللهفة لنعود فنحبّ، ونبصر، ونُحسّ… كما لو أننا نبدأ الآن.
هل نحتاج حقًا إلى التغيير؟
أم نحتاج إلى قلبٍ لا يشيخ أمام دهشة البدايات؟
لعلّ الحياة لم تكن في الأشياء، بل في الطريقة التي نراها بها كل مرة.


لم ارى يوما الدهشة بمنظور حالميّ وعاطفيّ هكذا سوى في اثنين ، كتاب عالم صوفي وكتاباتك ، شيء عظيم كيف ان عاطفة كالدهشة لها هذا المعنى العميق والمثير في اعين البعض